مجلة أثيرت آثار الجزيرة العربية قبل الإسلام
ظلّت مسوحات واكتشافات الوجود الإنساني وتشكّله الحضاري في الجزيرة العربية القديمة، أي في العصور السابقة على الإسلام، منطقة مهملة إلى حدٍّ قريب، مقارنةً بمصر والشام والعراق، رغم ما تحتويه أرض الجزيرة من مادة ثقافية أثرية ورسوم ونقوش صخرية وغيرها ولغات تجعل منها متحفاً مفتوحاً على مساحة جغرافية واسعة.
في الدوحة، أعلن عن فتح معرفي غير مسبوق يتمثل في تبنّي مركز "حسن بن محمد للدراسات التاريخية" مشروع مجلة "أثيرَت"؛ وهي مجلة أكاديمية عربية – دولية محكّمة متخصّصة في آثار الجزيرة قبل الإسلام وستصدر في كانون الثاني/ يناير من العام 2025، في عددٍ مزدوج، بالشراكة مع دار نشريات بريل الهولندية.
وجاء الإعلان عن المجلة خلال في "معرض الدوحة للكتاب"، الذي تشارك فيه دار بريل لأول مرة، وهي أشهر مؤسّسة عالمية تُعنى بالدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، والتي تأسسّت منذ 341 عاماً.
بحوث علمية بالعربية والإنكليزية للاكتشافات الأثرية وللأبحاث الرصينة
وقد تلقفت "بريل" اقتراح الشراكة بـ"فرح"، وفق ما قاله لنا عبد الرؤوف الوسلاتي، المسؤول عن النشر في قسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، وقال إن مجلة "أثيرَت" ستنضم إلى عشرات المجلات العلمية التي تصدرها الدار، والتي لم يكن من بينها ما يغطي هذا الحقل المتخصص في آثار الجزيرة العربية.
شعار مجلة أثيرت
شعار المجلة يحمل ثلاثة تعبيرات رمزية ذات دلالات حضارية هامّة، تشكّل عتبة الحقل الذي يحدثنا عنه رئيس تحرير المجلة، محمد مرقطن، الأستاذ الباحث في أكاديمية "برلين براندنبورغ للعلوم والإنسانيات".
شجرة الحياة والمُستلهمة من لوحة برونزية من اليمن تعود إلى أواسط القرن الأول قبل الميلاد، ويحيطها اثنان من الوعل اليمني، رمز آلهة الخصب في اليمن، واسم "أثيرَت" مكتوب بخط المسند أعلى الشعار.
ويفصّل مرقطن قائلاً إن المجلة تحمل اسم "أثيرَت: مجلة الجزيرة العربية القديمة"، وفي ذلك رسالة واضحة، فالاسم "أثيرت" هو لمعبودة معروفة في الحضارة الكنعانية وتظهر في أوغاريت (رأس شمرا قرب اللاذقية) تحت الاسم "أثيرت" أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وأقدم ذكر لها جاء عند الأموريين، في حضارة ماري المزدهرة في الألف الثاني قبل الميلاد شرق سورية.
وكما تظهر "أثيرت" تحت الاسم "أشيره" في الكنعانية الجنوبية في الألف الأول قبل الميلاد. وتظهر "أثيرت" في حضارات اليمن القديم خاصّة عند المعينيين والسبئيين من الألف الأول قبل الميلاد.
المعبودة "أثيرت" تربط بلاد الشام باليمن وفي ذلك تعبير عن روح التواصل بين شعوب بلاد الشام واليمن، وتظهر كأم للآلهة في أوغاريت واليمن، وتحمل اللقب "أم عثتر"، أي أم الإله عثتر في حضارات اليمن، وتقابل عثتر الإلهة عشتار في بلاد الرافدين، وعشتروت في الحضارة الكنعانية بما فيها الفينيقية.
وأضاف أنّ كل مملكة كان لها إله رئيسي، كما الحال في مملكة سبأ وإلهها اسمه المقه ودولة معين واسمه "ود"، بيد أنَّ الإله الأكبر المشترك هو "عثتر" الذي كانت أمه "أثيرت"، مختتماً هذه النقطة بالقول: "إن في اختيار الاسم للمجلة إشارة لاهتمامها أيضاً بدراسات المرأة".
وحين نذكر الجزيرة العربية يفرق مرقطن بين القديم والجديد من خلال تركّز المجلة على الجزيرة العربية القديمة بفضائها الثقافي القديم، وتخطّي الحدود السياسية الحالية، فهي تضم بادية الشام ومركزها الحضاري تدمر، حيث أقدم ذكر للعرب في صحراء تدمر يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وكذلك مملكة الحضر شمال غرب العراق، وهي جميعها بوصفه "وحدة ثقافية واحدة في تنوّع كبير".
من 14 دولة عربية وأجنبية اختير 27 من الباحثين الآثاريين، الذين قال عنهم مرقطن إنّهم جميعهم لم يكونوا باحثين مكتبيّين بل "بلعوا التراب في عمل حقيقي وحفريات امتدت سنوات طويلة"، ومن بينهم خمسة لهيئة التحرير التي ستستقبل بحوثاً علمية بالعربية والإنكليزية، يكون فيها الاختيار الأولي للاكتشافات الأثرية وللأبحاث الرصينة، وستكون المجلة منصة لعرض نتائج الحفريات والنقوش الجديدة.
تركيز على الجزيرة العربية القديمة بفضائها الثقافي القديم
والمجلة ستكون مفتوحة للجميع على الإنترنت عبر ما يسمى "الوصول الحر" للمواد بصيغة "بي دي إف"، وستكون البحوث بلغتين العربية والإنكليزية، وستكون مفتوحة للباحثين العرب للنشر بالعربية، ما سيُسهم في تكوين جسر عربي من منطقة عربية إلى مراكز البحوث والمهتمين حول العالم، وعبر دار عريقة لها خبرة طويلة، وهي مجلة تتخطّى طابع المحلية التي تطبع عادةً الإصدارات الأكاديمية في عالمنا العربي.
ولفت مرقطن إلى أنَّ الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها هي أشبه بـ "المتحف المفتوح" حيث نجد الرسوم الصخرية والنقوش بالعربية الجنوبية والشمالية في كل وادٍ مكتوبة على الصخور، إضافة إلى المواقع الأثرية من الطبقات السكنية والمصايد وخلافها مما ينتسب إلى ما قبل التاريخ، ومنها ما يعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد.
لكن في المجمل يقول مرقطن إن عشرات الآلاف من النقوش والرسومات، الصفائية والثمودية والدادانية اللحيانية والسبئية والحضرمية والقتبانية والمعينية تستخرج منها دراسات بالغة الأهمية في حقول الأديان واللغات والقانون والاقتصاد والمرأة، وهناك نقوش على الصخور وعلى الألواح البرونزية والحجرية التي عُثر عليها في المعابد، قد يتكوّن النقش الواحد منها من 300 كلمة كما هو في اليمن، أو بضع كلمات أو سطور أشبه بالتغريدات، كما في آلاف النقوش التي كشف عنها في الحرة في بادية الشام، وخصوصاً منها شمال شرق الأردن.
وأخيراً أخبرنا مرقطن أنَّ "أثيرَت" ستتولى إصدار سلسلة كتب حول الجزيرة العربية القديمة، أيضاً ذات خاصية الوصول الحرّ المجاني باللغتين العربية والإنكليزية.